الآفة التي أتناولها الآن، هي: عدم ستر المسلم، وفضحه بين الناس بما رآه من زلاته وعيوبه، والإنسان عندما يرى على أخيه عيبًا من العيوب.
وجب عليه الستر؛ لأنه لو سمع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رويَ عن أي هريرة، رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يستر عبدٌ عبدًا في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة"" (1).
وفي الحديث من طريق عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة" (2).
فالمسلم بطبيعته كما نحفظ من الحديث جميعًا: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه و لا يخذله ولا يحقره، التقوى هاهنا، ويشير إلى صدره الشريف ثلاثًا" ثلاث مرات، "بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه"(3) هكذا روى الإمام مسلم في صحيحه.
فستر المسلم، و ستر عيوبه، وستر ما يقبح من أخلاقه ولا يراه أحد إلا قليل من الناس وجب عليك أن تستره، فهذا من شيم أهل الإيمان، ووجوب الستر على أهل المعاصي من المسلمين من الواجبات الشرعية، والأخلاق الإيمانية التي يجب أن يتحلى بها أهل الإيمان.
إن الله تعالى يقول: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (النور:19)، فالمسلم لا يحب أبدًا أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا.
فالتسّرع في إلقاء التهم، وإلصاقها بالناس، حتى وإن رأى بعينيه عورة لأخيه، فما عليه إلا أن يكون كما أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم: "لو سترته بثوبك لكان خيرًا لك" (4). لماذا؟ لأن الإنسان عندما يستر مسلمًا فهو يعينه على العودة إلى رحاب الله مرة أخرى، يعينه على التوبة إلى الله توبةً خالصةً نصوحة.
و الشيطان يمكث للإنسان بالمرصاد، فربما لو رأى العبد أن أمره قد افتضح، يعني: السر الذي كان لا يراه أحد افتضح أمام العامة، عندئذ ربماٍ يستمرئ المعصية، أو يقول: هكذا يقال عني كذا وكذا، أو تقول المرأة: يقال عني كذا وكذا.
عندئذ قد يعتاد المعصية ويألفها، وقد لا يبالي، ويتبخر الحياء، ويضيع من عنده، عندئذٍ لا يكون الإنسان عونًا مع الشيطان على أخيه، فتتبع العورات سبيل لإفساد صاحب العورة، والله سبحانه وتعالى نهانا عن التجسس؛ فقال تعالى: (وَلا تَجَسَّسُوا)(الحجرات: من الآية12).
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم" (5).
فهذه امرأة تشك في زوجها في سلوك ما، فلا يجب عليها أبدًا أن تتابعه، أو تتقصى أخباره، أو أن تتحرى هاتفه مثلًا، وترى الأرقام المسجلة عليه، والأرقام التي تتصل به لتصل إلى قناعة معينة بما في ذهنها، أو بما شكت فيه؛ لأن الإنسان إذا تجسس سوف يعود عليه هذا التجسس بشيء يؤذيه، سوف يضره، وسوف لا يقنع بل ولن يرضى عن الطرف الآخر الذي يتعامل معه لكن:
ليس الغبي بسيد في قومه بل إن سيد قومه يتغابا
وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفضي الإيمان إلى قلبه لا تؤذوا المسلمين ولا تعيّروهم ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من يتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله" (6).
أخَ الإسلام،أختَ الإسلام، أبنائنا وبناتنا، ما الذي سوف يستفيده مسلم عندما يفضح أخاه؟ ما الذي تستفيده مسلمة عندما تفضح سر أختها المسلمة أو تهتك سترها؟
أولًا: انظر إلى ثمرات هذا العمل، ماذا يجني من يفضح هذا السر، ويهتك هذا الستر؟ ينال غضب الله عز وجل، ويصبح من الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، والله سبحانه وتعالى يقول: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (النور:19).
ثم هل تظن أن الذي أشعت عنه هذا الأمر أو هذا السلوك الذي كان مخبوءً ومخبأ عن الناس هل تظن أنه يحبك؟ بل على العكس سوف توغل أنت قلبه بالعداوة وبالبغضاء وبالنزاع، ويبدأ الناس في فقدان الثقة بعضهم ببعض، سيقول الإنسان مثلًا، سبحان الله! هذا الذي كان يصلي معنا؟ هذه هي المحجبة؟ هذا هو الملتزم؟ تلك هي الملتزمة؟ ويبدأ الناس بفقد الثقة فلا نرى قدوة ولا نرى أسوة.
إن أصحاب مرتكبي الذنوب عندما يسمعون هذا عن المسلمين المستقيمين، والمؤمنات المستقيمات، ربما يرفعوا ستر الحياء، أو حجاب الحياء عنهم، وقد نساعدهم بهذا على المجاهرة بالعاصي.
والسؤال الذي يطرحه كل واحد منا: إن رأى إنسان أخاه على معصية ما فماذا يصنع؟
أولًا: "الدين النصيحة" (7).
ولكن النصيحة على الملأ فضيحة، من الواجب أن أهمس في أذنه بما أريد أن أنصح وأسدل عليه كنفي وستري، ولله المثل الأعلى، كما يسدل الله عز وجل كنفه وستره على كل عاصي. فتأخذه بعيدًا عن أعين الناس.
وتقول له: يا فلان، حاذر من هذه المعاصي، استغفر الله سبحانه وتعالى، عد إلى ربك، كل بني آدم خطاء، تفتح له باب الخوف وباب الرجاء، عسى أن يعود، وعسى أن يؤوب، وعسى أن يستمع إليك. ولا يخلو الموضوع هنا من حالين:
• إما أن يرعوي، وتنزل كلماتك الصادقة في قلبه، فيتقي الله رب العالمين، ويعود ولا يصير سادرًا في غيه، ولا يتمادى فيما يصنع، ويقول: والله، جزاك الله عني خيرًا أنك أهديتني هذه النصيحة الغالية، وأنا كنت أريد من إذا رآني غافلًا ذكرنّي، وإن رآني ذاكرًا أعانني، عندئذٍ تكون أنت سببًا في هداية هذا الإنسان، فإذا كنت سببًا بهذه النصيحة في هدايته كانت كل أعماله الصالحة ثوابها له، ثم لك، بإذن الله رب العالمين.
كلما صنع شيئًا بعد موقف التوبة هذا سوف يكون لك كفل من هذا الخير، قال تعالى: (مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا)(النساء: من الآية85) تكن لك هذه لأنك تشفعت أو شفعت إلى هذا الإنسان أن يستقيم على طريق الله. وكأنك تشفعت بنفسك إلى نفسه وإلى قلبه فعاد إلى رب العباد سبحانه وتعالى.
• الحال الثانية:
وهي أن يماشيك، ويقول: إن شاء الله رب العالمين، ثم يعود إلى المعصية مرة أخرى.
يا أخً الإسلام، ما عليك إلا أن تعيد النصيحة بلباقة وبأدب، و بمحبة، وتجعل جسرًا بينك وبينه، عبارة عن جسر المحبة وجسر المودة، حتى ينصت قلبه لك، وينصت عقله إليك، ويأخذ الكلام مأخذ الجد، ويحاول أن يكون من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
وإما أن يقوم هذا الإنسان برفض ما تقول، عندئذٍ يجوز أن تهمس في أذن العالم الذي يلقي درسًا كل أسبوع أو خطبة جمعة، وتقول له: لي إنسان معين، يعز علي، وهو يصلي معنا، أو يحضر الجمعة، ويسمع الخطبة التي تلقيها.
فوددنا مثلًا أن تكلمنا عن فضائل التوبة، وثمرات التوبة، وثمرات الأوبة إلى الله، والعودة إليه سبحانه تعالى، ربما يقع كلام الشيخ في قلبه موقع القبول، إن شاء الله رب العالمين، عندئذٍ تكون قد صنعت خيرًا، وصرت مفتاحًا للخير مغلاقًا للشر.
ثانيًا: الإنسان مبتلى ومعافى، فلنحمد الله على العافية ولنرحم أهل البلاء، أكبر بلاء ينزل بالإنسان هو البلاء في الدين؛ لأن الصحة تذهب وتأتي، والمال يذهب ويأتي، كل ما في أيدينا يذهب و يأتي، إن أصبنا به، إلا المصيبة في الدين، فتلك أعظم مصيبات الحياة؛ أن يصاب الإنسان في دينه، أن يضل بعد هدى، أو أن ينحرف بعد استقامة، أو أن يفتر بعد عزيمة، أو أن يبتعد بعد قرب من الله ومن رسوله ومن كتاب ربه ومن الصالحين ومن أهل العلم.
فالابتلاء في الدين هو من أشد أنواع الابتلاء، فمن الواجب أن تقف بجوار أخيك؛ لأنه في محنة.
فالإنسان منا لو مرض مرضًا شديدًا لعاده أصحابه وأقاربه وأصدقاؤه، ولو مرضت المرأة مرضًا شديدًا لعادتها صديقاتها وقريباتها، لماذا؟ لأنهم يخشون عليه أو عليها من أن تكون هذه هي النهاية، فهم يقفون بجواره، أو يقفون بجوارها ساعة المرض.
ألا نرى أن مرض القلوب هو أشد الأمراض؟ وأن مرض الذنوب هو أشد الأمراض الفتاكة بقلب العبد؟
ولذلك لما ذهب أحد الناس إلى الحسين بن علي رضي الله عنهما وقال له: يا ابن بنت رسول الله مريض أبحث عن دواء، قال: ما مرضك؟ قال: مرضي هو البعد عن الله رب العالمين كلما أردت أن أتوب عدت إلى الذنوب مرة أخرى.
فقال له الإمام الحسين رضي الله عنه: يا هذا إن أردت أن تعصي الله فاعصه في ملك غير ملكه واعصه في مكان لا يراك فيه، وإذا أردت أن تعصي الله فلا تأكل من رزق الله وإن أردت أن تعصيه وجاءك ملك الموت فقل له: أخرني حتى أتوب وإن أردت أن تعصيه وحشرت بين يديه يوم القيامة، وقال لك عبدي: لم عصيتني؟ قل: أنا لم أعصك يا رب. قال الرجل: أأكون كذابًا في الدنيا وأكذب على الله في الآخرة! والله قد تبت إلى الله توبة خالصة نصوحة (8).
فالعبد يستطيع أن يمهد، وأن يفتح باب الرحمة لأخيه المسلم العاصي، ويفتح باب الخير لهذا الذي ابتعد عن طريق الله عز وجل حتى يجد هذا الصدر الحنون وتقرأ عليه آيات الرحمة وآيات المغفرة، كقوله تعالى: (غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (غافر:3).
تذكر له الأحاديث العظيمة التي وردت على لسان الميسر البشير النذير صلى الله عليه وسلم والتي تبشر أهل التوبة والإنابة إلى الله تعالى.
قال صلى الله عليه وسلم: "إذا أذنب العبد ذنبًا ثم تاب، قال عز وجل: علم عبدي أن له ربًا يغفر الذنوب أشهدكم إني قد غفرت له، فإن عاد إلى الذنب مرة ً أخرى وأستغفر، قال الله عز وجل: علم عبدي أن له ربًا يغفر الذنوب أشهدكم أني قد غفرت له، إلى أن يقول أشهدكم أني قد تبت عليه فلن يعود إلى الذنب مرة أخرى"، (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا)(التوبة: من الآية118) (9).
أخوة الإسلام، إننا إذا سترنا على المسلمين ستر الله علينا في الدنيا والآخرة، وكل بنيّ آدم خطاء، ولا معصوم إلا الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم، فوجب علينا أن نستر على إخواننا حتى يسترنا الرب سبحانه وتعالى.
اللهم يا من سترتنا لا تفضحنا على رؤوس الأشهاد يوم القيامة واسترنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض إنك على كل شيء قدير.
--------------------------------------------------------------------------------
1 )- أخرجه مسلم في"صحيحه" (4/2002) رقم (2590).
2 )- أخرجه البخاري في"صحيحه"(2/862) رقم (2310)، ومسلم في"صحيحه" (4/1996) رقم (2580).
3 )- رواه مسلم في "صحيحه" (4/1986) رقم (2564) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
4)- صحيح، رواه أهل السنن والحاكم والبزار وغيرهم، وهو في قصة رجم ماعز الأسلمي، رضي الله عنه، وهو من رواية صحابي دعى "هزال" ليس له سوى هذا الحديث، وقواه الحافظ ابن حجر في"فتح الباري" (12/125)، وقال أبو عمر بن عبد البر، رحمه الله، في"التمهيد" (23/125) :" يستند من وجوه صحاح".
5)- قال النووي في "رياض الصالحين" :"باب النهي عن التجسس:"حديث صحيح رواه أبو داود بإسناد صحيح"، وقال صاحب "زوائد الأدب المفرد" رقم (88):"صحيح لغيره من حديث معاوية".
6 )- صحيح أخرجه أحمد في"المسند" (4/420)، وأبو داود (4/270) رقم (4880)، والروياني في"المسند" (2/336) رقم (1312)،وأبو يعلى في"المسند" (13/419) رقم (7423) من حديث أبي برزة الأسلمي، رضي الله عنه، وله شواهد عديدة من حديث البراء، وابن عمر، رضي الله عنهم..
7 )- أخرجه مسلم في"صحيحه" (1/74) رقم (55) من حديث تميم الداري، رضي الله عنه.
8 )- ذكره السبكي في "الآثار التي لم يجد لها إسنادا".
9 )- أخرجه مسلم في "صحيحه" (4/2112) رقم (2758) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
الكاتب: د. عمر عبد الكافي
المصدر: موقع د. عمر عبد الكافي